بين بطء المحاكم وتحيز الأعراف.. النساء والأقليات ضحايا فجوة العدالة العالمية

بين بطء المحاكم وتحيز الأعراف.. النساء والأقليات ضحايا فجوة العدالة العالمية
العدالة القضائية

في عالم يُفترض أنه يتقدّم نحو المزيد من المساواة والإنصاف، يعيش أكثر من خمسة مليارات إنسان –أي نحو ثلثي سكان العالم– في حالة حرمان فعلي من الحق في الوصول الهادف إلى العدالة.. أزمة صامتة لكنها تمسّ جذور كرامة الإنسان واستقراره، وهي لا تقل خطورة عن الأزمات الاقتصادية أو النزاعات المسلحة. لكن لماذا تتسع هذه الفجوة رغم المواثيق والالتزامات الدولية؟ وكيف يمكن ردمها في ضوء التجارب العالمية والتحديات البنيوية؟

الحق في الوصول إلى العدالة مكفول دوليًا بموجب نصوص مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما تكرسه دساتير دول عديدة، منها تونس والمغرب وكينيا وتايلاند، ويؤكد الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة الوصول إلى العدالة للجميع، بينما تُشدّد أجندة الاتحاد الإفريقي 2063 على تعزيز هذا الحق كشرط لتحقيق التنمية المستدامة وفق موقع "opiniojuris".

لكن الواقع يقول إن العدالة ليست مجرد مبادئ على الورق، ففي كثير من مناطق العالم، تُعَدّ محاكم الدولة بالنسبة لمعظم السكان ترفًا بعيد المنال حيث الإجراءات المطوّلة، وأتعاب محامين باهظة، ومحاكم مركزية تبعد مئات الكيلومترات، إضافةً إلى الحواجز اللغوية والثقافية، ووفقًا لتقديرات تقرير صادر عن معهد لاهاي للابتكار القانوني، فإن نحو 1.5 مليار شخص يواجهون مشكلات قانونية سنويًا، لكن أقل من نصفهم فقط يتمكنون من اللجوء إلى أي شكل من أشكال العدالة.

أنظمة العدالة البديلة

في مواجهة هذه الفجوة، برزت أنظمة العدالة البديلة كوسيلة أساسية –لا كمجرّد بديل– للحصول على العدالة في كثير من المجتمعات، ففي كينيا مثلًا، لا يلجأ نحو 90% من الناس إلى محاكم الدولة، بل يفضّلون المجالس القبلية، والزعماء الدينيين، ومساعدي المحامين المجتمعيين، أو هيئات المصالحة المحلية، وفي إندونيسيا، تشكّل المحاكم الإسلامية جزءًا أصيلًا من النظام القضائي، أما جنوب إفريقيا فتعترف رسميًا بالقانون العرفي إلى جانب القانون الوطني.

اللافت أن هذه الأنظمة توفّر عدالة سريعة، أقل كلفة، وغالبًا أكثر انسجامًا مع السياق الثقافي والاجتماعي المحلي، في القرى الكينية مثلًا، يستطيع الناس الترافع بلغتهم الأم أمام مجلس الشيوخ المحلي، دون الحاجة لمحامٍ أو مترجم، كما أن هذه الآليات تركز على إصلاح العلاقة بين الأطراف بدلًا من إعلان رابح وخاسر.

ورغم مزاياها، تتعرض هذه الأنظمة لانتقادات جوهرية من نشطاء حقوق الإنسان بسبب افتقارها إلى الشفافية، وقلة التوثيق، وانعدام الضمانات الأساسية كحق الاستعانة بمحامٍ أو المثول أمام قاضٍ محايد. مثال صارخ على ذلك محاكم "غاكاكا" التقليدية في رواندا التي أُنشئت بعد إبادة 1994، ورغم أهميتها في نظر مئات آلاف القضايا بسرعة، تعرّضت لانتقادات بسبب التجاوزات وغياب معايير المحاكمة العادلة.

وفي كثير من المجتمعات، تُتهم هذه الأنظمة بإدامة التمييز ضد النساء والفئات المهمشة، إذ لا تزال تُهيمن عليها قيادات ذكورية أو تقاليد ترى دور المرأة ثانويًا في الحياة العامة.

ارتفاع التكاليف وبطء الإجراءات

من المفارقات التي تكشفها تقارير أممية أن المحاكم الرسمية نفسها تواجه مشكلات مشابهة تتمثل في ارتفاع التكاليف، وبطء الإجراءات، ونقص الاستقلالية، والتمييز. 

منظمة الشفافية الدولية تشير إلى أن 46% من المستطلَعين حول العالم يعتبرون أن نظامهم القضائي «فاسد». في كمبوديا، مثلًا، تُعطى الأولوية للقضايا التي تتيح رشاوى أو أرباحًا أكبر لمسؤولي المحاكم، بحسب تقارير محلية.

أما في الدول المتقدمة فلا تخلو الصورة من انتقادات، فقد أبدت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان قلقها حيال انخفاض تمويل المساعدة القانونية في هولندا، وإجراءات طويلة بشكل مفرط لقبول طلبات الإعفاء القضائي في اليونان، واستنزاف محامي المساعدة القانونية في المملكة المتحدة.

وفي الولايات المتحدة، أظهرت تقارير لجنة القضاء على التمييز العنصري أن الأقليات العرقية ممثلة بشكل مفرط في السجون، وتواجه أحكامًا أشد بسبب التحيز البنيوي، وهو ما يعكس تركةً تاريخية من العبودية والتمييز.

العدالة بين الرجل والمرأة

تتجلى الفجوة بشكل مؤلم في التمثيل النسائي داخل القضاء، في كينيا، مثلًا، كان مجلس شيوخ نجوري نتشيكي لا يضم أي قاضية حتى وقت قريب. 

وعالميًا، رغم كل التقدم، تظل النساء أقلية في المناصب القضائية العليا: في محكمة العدل الدولية -أرفع محكمة دولية– هناك أربع نساء فقط من أصل 14 قاضيًا حتى عام 2025، وفي الولايات المتحدة، لم تُعيَّن أول امرأة في المحكمة العليا إلا عام 1981.

الأمم المتحدة أوصت عام 2024 الدول باتخاذ تدابير لضمان تمثيل المرأة العادل في القضاء، بما يشمل المحاكم العرفية وغير الرسمية، لما لذلك من أثر مباشر على نزاهة واستقلال العدالة.

العدالة ليست مقاسًا واحدًا

رغم أن كل نظام عدالة –رسمي أو بديل– يواجه تحديات، فإن الخبراء يؤكدون أن الحل لا يكمن في إقصاء أحدهما لصالح الآخر، بل في تطويرهما معًا، فالعدالة، بطبيعتها، متعددة الأبعاد والثقافات؛ والدولة الحديثة ليست وحدها من يحتكرها.

بحسب خبراء معهد هولندا لحقوق الإنسان، على الدول الاعتراف قانونيًا بأنظمة العدالة البديلة، وتنظيمها بحيث تراعي ضمانات المحاكمة العادلة، مع توسيع المساعدة القانونية، وتدريب الوسطاء المحليين على معايير حقوق الإنسان.

وفي المقابل، يجب أن تراجع الدول أنظمتها الرسمية لمعالجة البطء، تقليل التكاليف، والتصدي للفساد والتمييز، فالعدالة لا تنفصل عن التنمية وغيابها يعمّق الفقر، يقوّض الثقة بالمؤسسات، ويعزز دور النزاعات.

وشدد الخبراء على إصلاح شامل للمساعدة القانونية لتكون مجانية أو منخفضة الكلفة للفئات الضعيفة، وتشجيع الابتكار التكنولوجي مثل تطبيقات الاستشارات القانونية المجانية والمنصات الإلكترونية لتسوية النزاعات، وكذلك إنشاء مؤسسات للعدالة البديلة ضمن قوانين واضحة تضمن الاستقلالية والحياد، وزيادة تمثيل النساء والأقليات في جميع مستويات القضاء، إضافة إلى نشر الثقافة القانونية في المدارس والمجتمعات المحلية لتقوية الوعي بالحقوق.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية